الصهيونيّة والاستعمار الاستيطانيّ: مقاربات فلسطينيّة | فصل

الصهيونيّة والاستعمار الاستيطانيّ: مقاربات فلسطينيّة (2023)

 

أصدر «مدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة»، كتابا محرّرًا بعنوان «الصهيونيّة والاستعمار الاستيطانيّ: مقاربات فلسطينيّة» من تحرير بروفيسور نديم روحانا، المدير العامّ السابق والمؤسّس لـ «مدى الكرمل» وأستاذ الشؤون الدوليّة ودراسات الصراع في «كليّة فليتشر» في «جامعة تافتس»، والدكتورة عرين هوّاري، مديرة برنامج الدراسات النسويّة في «مدى الكرمل».

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من مقدّمة الكتاب بالتعاون مع «مدى الكرمل».

 


 

لَطالما نظر الفلسطينيّون إلى الصهيونيّة على أنّها مشروع استعمار استيطانيّ، على نحو واضح لا لَبْسَ فيه. فقد أدركت أغلبيّتهم، منذ بداية المواجهة مع الصهيونيّة في أواخر القرن التاسع عشر، أنّ جوهر المشروع الصهيونيّ تمثّل في إحضار سكّان من أوروبّا، بدعم من القوّة الاستعماريّة العظمى آنذاك (بريطانيا)، والسعي لتشريدهم وإحلال غيرهم في وطنهم؛ بالتهجير والاستبدال. وقد عكَس شكل التحليل والمفردات المستخدَمة في الفكر السياسيّ الفلسطينيّ منذ فترة مبْكرة جدًّا، إلى جانب الأدب والأغنية الشعبيّة والتاريخ الشفويّ، وكذلك أشكال المقاومة (العسكريّة والمدنيّة، كما كانت الحال مع الثورة الكبرى في فلسطين 1936 -1939) والمواقف السياسيّة التي اتّخذها الفلسطينيّون (بما فيها رفض قرار «الجمعيّة العامّة» لـ «الأمم المتّحدة» 181 عام 1947 بشأن تقسيم فلسطين إلى دولة يهوديّة ودولة عربيّة)، عكَسَ فهمًا جليًّا للصراع بوصفه - بلغة اليوم - استعمارًا استيطانيًّا[1].

لم تتغيّر النظرة إلى الصهيونيّة مع الوقت، لكن في المقابل برز فهمٌ أكثر تعقيدًا لماهيّتها. وبعد إنشاء منظّمة التحرير الفلسطينيّة عام 1964 من بين صفوف اللاجئين الفلسطينيّين خارج فلسطين، تمحوَرَ برنامجها السياسيّ في "العودة والتحرير"، أي عودة الفلسطينيّين الذين شرّدتهم من فلسطين عنوةً القوّاتُ الصهيونيّة خلال حرب عام 1948، ثمّ لم يُسمَح لهم بالعودة إلى بلادهم. أمّا التحرير، فقُصِد به تحرير فلسطين من قبضة الصهيونيّة، لكن دون التطرّق بوضوح إلى طبيعة النظام الذي سيحكم العلاقة بين العرب واليهود بعده[2].

 

بين النظريّة والممارسة

ظهر التنظير الأكاديميّ بشأن الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين في ستّينات القرن الماضي من الفلسطينيّين وغيرهم، أي بعد فترة طويلة من حضوره، منذ البداية، في الوعي الشعبيّ والسياسيّ. ونشر «مركز الأبحاث» في «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في بيروت كتيّب فايز صايغ «الاستعمار الصهيونيّ في فلسطين» عام 1965، بينما قارب باحثون آخرون موضوع الاستعمار الاستيطانيّ من وجهات نظر مختلفة[3]. وكما أورد عمر سلامانكا وزملاؤه، فإنّ الاستعمار الاستيطانيّ "كان في وقت من الأوقات بمنزلة المعيار الأيديولوجيّ والسياسيّ الرئيسيّ بالنسبة إلى الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة"[4]. حتّى منتصف السبعينيّات، كان نموذج الاستعمار الاستيطانيّ هو المهيْمِن بين صفوف الأكاديميّين الفلسطينيّين، ومَثّلَ البوصلة لكثيرين في كتاباتهم التوصيفيّة وتحليلاتهم، وأسهم في تشكيل الفكر السياسيّ الفلسطينيّ، وإن لم يشمل الإطار في حينه التبصُّرات التي أُحرِزت على المستوى النظريّ في العَقدَيْن الأخيرَيْن أو في العقود الثلاثة الأخيرة[5].

تحوُّل «منظّمة التحرير» نحو سياسات تأسيس الدولة في السبعينيّات قد سرّع في ظهور نموذج يَفترض أنّ الصراع بين الصهيونيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هو صراع قوميّ...

بَيْدَ أنّ تحوُّل «منظّمة التحرير» نحو سياسات تأسيس الدولة في السبعينيّات قد سرّع في ظهور نموذج يَفترض -صراحة أو ضمنيًّا- أنّ الصراع بين الصهيونيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هو صراع قوميّ. لقد نجحت مقتضيات السياسة الواقعيّة دوليًّا وعربيًّا، الّتي برزت بعد حرب تشرين الأوّل عام 1973، والتي بادرت إليها مصر وسوريا بهدف واضح ومحدَّد تَمَثَّلَ في تحرير الأراضي المصريّة والسوريّة التي احتلّتها إسرائيل عام 1967 (وليس الأراضي الفلسطينيّة التي احتلّتها إسرائيل عام 1948 أو 1967)، بإقناع الفصائل المهيمنة داخل «منظّمة التحرير» بالسعي نحو إقامة دولة على الأراضي التي احتُلّت في عام 1967[6].

بدأ ذلك المسعى مع برنامج النقاط العشر في عام 1974 الّذي دعا إلى إنشاء سلطة وطنيّة مستقلّة مقاتلة "على كلّ جزء من الأرض الفلسطينيّة الّتي تُحرَّر"، واستمرّ من خلال «اتّفاقات أوسلو» في عام 1993 الّتي سعت «منظّمة التحرير» من خلالها إلى تحقيق ما يُعْرَف بِـ ’حلّ الدولتين‘، دولة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة، تعيش جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل، على أساس حدود الرابع من حزيران عام 1967. وخلال هذه الفترة، أي منذ منتصف السبعينات حتّى وقت قريب، تراجَعَ الخطاب السياسيّ والأكاديميّ حول ﭘـَرَدايْم الاستعمار الاستيطانيّ، وصعد إطار جديد ينظر إلى الصراع بوصفه صراعًا بين حركتين قوميّتين: الحركة الصهيونيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ومع ذلك، لم ينجح إطار الصراع القوميّ الّذي ما زال يوجّه مساعي نُخَب السلطة الفلسطينيّة السياسيّة نحو تحقيق حلّ الدولتين باستبدال ﭘـَرَدايْم الاستعمار الاستيطانيّ في الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ وفي صفوف النُّخَب الثقافيّة، بل لقد نشأ إلى جانبه وتعايش معه.

 

عودة نموذج الاستعمار الاستيطانيّ

مؤخَّرًا، شهد الخطاب الأكاديميّ عودة نشطة لـِـﭘَرَدايْم الاستعمار الاستيطانيّ عند الحديث عن فلسطين، يقودها باحثون فلسطينيّون ودوليّون. وبصرف النظر عن العوامل الّتي أدّت إلى هذه العودة (سواء أكانت الظروف السياسيّة على الأرض من قَبيل فشل نموذج الصراع القوميّ في شرح الصراع وديناميّاته، أو الوضوح المتزايد لممارسات وبِنى الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ، أو إصرار المقاومة الفلسطينيّة وصمودها، أو سياسات إنتاج المعرفة المتغيّرة مع بروز أجيال جديدة من الباحثين النقديّين والسكّان الأصلانيّين وانفتاح أبواب جديدة من البحث الأكاديميّ)، أصبح الـﭘَرَدايْم، تدريجيًّا، إطارًا أساسيًّا لدراسة حالة فلسطين، ويخطو خطوات واسعة ليصبح خطابًا معرفيًّا مُهيمنًا. وقد حدث هذا التحوّل نتيجة جهود العديد من الباحثين في التنظير، وفي القيام بأبحاث مقارِنة في فلسطين، ومجموعة كبيرة من الباحثين الّذين أطّروا ونظّروا وناقشوا قضايا رئيسيّة ضمن هذا الـﭘَرَدايْم من حيث علاقتها بالصهيونيّة وإسرائيل كما يظهر في بعض فصول هذا الكتاب.

يَعتبر العديد من أوساط أحزاب ’اليسار الصهيونيّ‘ المستوطنين اليهودَ في الضفّة الغربيّة سببًا أساسيًّا في الصراع، وعقبةً أمام الحلّ الّذي يمكن تحقيقه من خلال عودتهم إلى المتروﭘـول الأمّ؛ إسرائيل بحدودها عام 1967...

بَيْدَ أنّه ينبغي القول إنّ ثمّة فجوةً واسعةً تتمثّل في تأطير الصهيونيّة من خلال ﭘـَرَدايْم الاستعمار الاستيطانيّ في الوعي السياسيّ الفلسطينيّ، وفي فضاء الفلسطينيّين الثقافيّ وخطابهم الأكاديميّ اليوم من ناحية، وغيابه بالكامل تقريبًا -من ناحية أخرى- في الخطاب السياسيّ والثقافيّ والأكاديميّ الإسرائيليّ. بل يغيب هذا الـﭘَرَدايْم أيضًا في أوساط ما يُعرف بـِ ’اليسار الصهيونيّ‘، وحتّى لدى بعض ممَّنْ يُعْرَفون بالمؤرّخين الجُدد، وهم مجموعة من المؤرّخين النقديّين الّذين أعادوا دراسة السرديّة الصهيونيّة المهَيْمِنة بشأن حرب عام 1948[7]. تحصر أغلبيّة هؤلاء نطاق بحثها في السياسات الإسرائيليّة، وتُقرّ بطبيعتها الاستعماريّة، لكن في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في عام 1967 فقط. بهذا المعنى، نقطة البداية للمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الصهيونيّ في فلسطين، في عُرفهم، هي في عام 1967، عندما احتلّت إسرائيل الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة، ثمّ باشرت في بناء المستوطنات عام 1968، حيث يُنظر إلى إسرائيل باعتبارها المتروﭘـول، وإلى المستوطنين الإسرائيليّين في الضفّة الغربيّة بمنزلة مبعوثيها.

يركّز هذا الخطاب على السياسات الاستعماريّة الاستيطانيّة الإسرائيليّة، لا على المشروع الصهيونيّ برمّته، بوصفه مشروعًا استعماريًّا استيطانيًّا، ويتجاهل ماضي إسرائيل والصهيونيّة قبل عام 1967. وبالفعل، يَعتبر العديد من أوساط ما بقي من أحزاب ’اليسار الصهيونيّ‘ المستوطنين اليهودَ في الضفّة الغربيّة سببًا أساسيًّا في الصراع، وعقبةً أمام الحلّ الّذي يمكن تحقيقه من خلال عودتهم (أو -توخّيًا لمزيد من الدقّة- عودة العديد منهم) إلى المتروﭘـول الأمّ؛ إسرائيل بحدودها في ما قبل عام 1967. وبالنسبة إليهم، إسرائيل دولة عاديّة، وليست نتاج مشروع استعمار استيطانيّ، لكنّها أنشأت مشروعًا للاستعمار الاستيطانيّ في الضفّة الغربيّة[8].

 

تنظيم أكاديميا فلسطين التاريخيّة

يأتي هذا الكتاب حصيلةً إضافيّة للمسار الّذي بادر إليه «مدى الكرمل» وشارك فيه أكاديميّون ومحاضرون وطلبة دراسات عليا فلسطينيّون يدرسون في فلسطين التاريخيّة في مؤسّسات أكاديميّة مختلفة، من بينها «جامعة بير زيت» ومؤسّسات أكاديميّة إسرائيليّة مختلفة. جمع هؤلاء الباحثين الانشغالُ السياسيّ والأكاديميّ في فهم الصهيونيّة كمشروع استعمار استيطانيّ، وفي بحث الصورة الّتي تحاول إسرائيل خلْقها وبثّها من خلال الخطابين الأكاديميّ والسياسيّ، وكذلك في كشف واقتفاء الممارَسات الإسرائيليّة المختلفة، القانونيّة منها والسياسيّة والعسكريّة، الّتي من خلالها تحاول ممارسة مشروعها الاستيطانيّ الاستعماريّ بالتوازي مع المحاولة الناجحة أحيانًا (على الأقلّ في الأوساط السياسيّة والأكاديميّة الغربيّة) في تصوير نفسها ديمقراطيّة تدافع عن نفسها أمام قوى تعادي وجودها، وتوصَف أحيانًا بأنّها ’لاساميّة‘. جمع أولٰئك الباحثين كذلك الاهتمامُ بالمقاومة الفلسطينيّة وبالمركز السياسيّ الفلسطينيّ ودَوْره في مقاومة المشروع تاريخيًّا بصور مختلفة، بدءًا بمقاومته شعبيًّا بوصفه مشروعًا استعماريًّا استيطانيًّا، مرورًا بالتعامل معه على أنّه مشروع احتلال حصرًا في المناطق الّتي احتُلّت عام 1967، وصولًا إلى الانكفاء الّذي يبلغ حدّ التواطؤ مع هذا المشروع. 

بدأ هذا المسار عام 2014 كجزء من نشاطات برنامج دعم طلبة الدكتوراة في «مدى الكرمل»، الّذي كان أوّلَ إطار يجمع طلبة الدراسات العليا الفلسطينيّين في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، ولا سيّما الّذين يدرسون في مؤسّسات أكاديمية إسرائيليّة. وذلك، أوّلًا كي يسهم في دعم الباحث الفلسطينيّ الّذي يدرس وينتِج داخل الأكاديميا الإسرائيليّة، وثانيًا من أجل إنتاج معرفة نقديّة حول فلسطين وحول إسرائيل تقاوم الهيمنةَ الأكاديميّة الإسرائيليّة، وتقاوم الواقع الّذي يعيشه الفلسطينيّ الحامل قسريًّا هُويّة إسرائيليّة، والّذي يعيش ويمارس نشاطاته الأكاديميّة والثقافيّة والسياسيّة، وخلافًا لسائر أبناء شعبه وسائر أبناء أمّته، دون حيّز يسمح له بالإنتاج الثقافيّ أو الفنّيّ أو الأكاديميّ المستقلّ عن المؤسّسة المهيمِنة، ودون مدينته الّتي تفتح له أبوابها أو أكاديميّته الّتي تسهم في تشكيل وعيه ومعرفته المستقلّة عن المستعمِر.

 

مقاربات لأجل استعادة المدينة الغائبة

في هذا السياق، وَجَدتْ حيفا في «مدى الكرمل» (وفي مؤسّسات ثقافيّة وسياسيّة ونسويّة وفنّيّة ومقاهٍ أقيمت في الَعْقدين الأخيرين) مَنْ يعمل على تعويضها -وإنْ جزئيًّا- عن مكانتها الثقافيّة الّتي فقدتها في النكبة؛ بينما وجد «مدى الكرمل» وتلك المؤسّسات الأخرى في حيفا مدينة تحاول أن تنهض فلسطينيًّا من تحت الأنقاض، على الرغم من جميع محاولات طمسها عمرانيًّا وثقافيًّا وسكّانيًّا، لتحتضنهم وتعوّضهم عن حيّز لم يفقده سائر أبناء شعبهم على الرغم من كلّ ما حلّ بهم. فبعد النكبة عام 1948، بقيت نابلس وبقيت القدس وبقيت غزّة. وحتّى بعض مَنْ عاشوا لاجئين وجدوا بيروت وعمّان والشام والقاهرة.

أمّا البقيّة الّتي تحوّلت إلى ’مواطِنة‘ داخل الكيان الجديد، فقد مُحِيَت مدنها وهُجِّر أهلها تمامًا من صفد وبيسان وعسقلان، وطبريّا الّتي مُحِيَت أحيانًا حتّى من الذاكرة كمدن فلسطينيّة[9]. كذلك مُحِيَت ثقافتهم وعمرانهم ومؤسّساتهم وأحزابهم، وحضورهم الجماعيّ والفاعل في مدنهم الأخرى (يافا؛ عكّا؛ حيفا؛ اللدّ؛ الرملة). لقد خسروا هذه المدن أيضًا الّتي هُجِّر معظم السكّان منها، وبقي القليل منهم أو من المهجّرين الّذين عاشوا وما زال معظمهم يعيشون داخل ﭼـيتوهات، يعانون ويقاومون الفقر والقمع والإخلاء والتهجير. وبقيت الـمُناصِرةَ لهذه الجماعة مدينةُ الناصرة الّتي احتضنت اللاجئين وقاومت السياسات الاستعماريّة، غير أنّها لم تملك وقتذاك أيًّا من مقوّمات المدينة بمفهومها الثقافيّ والأكاديميّ والسياسيّ وحتّى الاقتصاديّ. ولم تمكّنها السياسات الاستعماريّة من التطوّر بعد ذلك، بل إنّها بدلًا من توسيعها كي تتّسع لمَنْ لجأوا إليها، خُنِقت وسُرِقت أرضها وسُرق اسمها بغية إقامة مستوطنة قامت على أرضها وعلى أراضٍ لخمس قرى حولها.

لم يكن من قَبيل المصادفة أن تنشأ الكثير من المؤسّسات الّتي تسعى إلى إعادة إحياء المدينة وإلى الاستقلال الثقافيّ والأكاديميّ والفنّيّ والنسويّ في حيفا...

لذا، لم يكن من قَبيل المصادفة أن تنشأ الكثير من المؤسّسات الّتي تسعى إلى إعادة إحياء المدينة وإلى الاستقلال الثقافيّ والأكاديميّ والفنّيّ والنسويّ في حيفا، مقاوِمةً بذلك اختزال المطالَبة بالحقّ في المدينة في الناصرة أو في إقامة مدن جديدة، ومؤكِّدة على حقّها في استعادة مدينتها وإن كان ذاك رمزيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا. لذا، لم يكن من قَبيل المصادفة أن يقرّر المثقّفون الفلسطينيّون الّذين أسهموا في صياغة رؤية جماعيّة للوضع الجماعيّ للفلسطينيّين داخل أرضي 1948 أن يسمّوا وثيقتهم «وثيقة حيفا».

ضمن برنامج دعم طلبة الدكتوراة، يَعْقد «مدى الكرمل» منذ عام 2015 ورشة أكاديميّة بعنوان «الصهيونيّة والاستعمار الاستيطانيّ». يَعقد «مدى الكرمل» معظم سميناراته في حيفا، لكنّه قرّر عقد هذه الورشة الّتي تمتدّ لقاءاتها على مدار يومين أو ثلاثة في مدينة رام الله، كي يتمكّن الباحثون الفلسطينيّون من الضفّة الغربيّة أو من سكّان غزّة المقيمين في الضفّة أن يشاركوا؛ وذلك أنّهم لا يستطيعون الدخول إلى داخل الأراضي المحتلذة عام 1948 بسبب حواجز المستعمِر. وقد عكس هذا القرار رؤية «مدى الكرمل» الّذي يرى أنّه على الحِوار الأكاديميّ والسياسيّ حول هذا الموضوع أن يكون حِوارًا فلسطينيًّا عامًّا لا ينحصر داخل أراضي 1948، أو في المناطق المحتلّة عام 67، ولا حتّى بين الباحثين المقيمين في فلسطين التاريخيّة. إلى جانب ذلك، عقد «مدى الكرمل» لقاءً في عمّان شارك فيه باحثون فلسطينيّون وغير فلسطينيّين مهتمّون بنفس الأسئلة. وبالتالي فإنّه لم يرَ هذه اللقاءات مجرّد لقاءات ’تواصل‘ تُدافعُ عن الهُويّة ضدّ محاولات التفرقة الاستعماريّة، وإنّما يراها اللقاءَ الطبيعيّ بين أبناء شعب واحد يحملون على عواتقهم قضيّة واحدة يقاربونها سياسيًّا وأكاديميًّا.  

بالتوازي مع هذا المسار، وأحيانًا بالتفاعل معه، أقيمت مجموعات إضافيّة ومؤتمرات محلّيّة وعالميّة ومنشورات أكاديميّة وسياسيّة قاربت الصهيونيّة من منظور كونها استعمارًا استيطانيًّا. وفي هذا يرى «مدى الكرمل» أنّه صاحب دَوْر في إعادة تأطير وتعزيز المنظور الاستعماريّ الاستيطانيّ في تحليل الصهيونيّة وفي مقاومتها.

 

أسئلة المشروع السياسيّ 

مع اقترابنا لهذه المرحلة من العمل، وخلال مراجعتنا لِما كتبناه ولِما يكتبه الآخرون حول المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ ومقاومته، وجدنا أنّه من الضروريّ لنا أن نتطرّق إلى بعض القضايا الّتي في الغالب لم تأخذ حقّها لا في الفكر السياسيّ، ولا في الفكر الأكاديميّ؛ فنحن نرى أنّنا أكاديميًّا وكذلك سياسيًّا (على نحوِ ما ستُظهِر لنا مقالات هذا الكتاب) قطعنا شوطًا في فهم المشروع الصهيونيّ، وفي تشخيص الحالة السياسيّة الواقعة وفي الحاجة إلى رفضها ومقاومتها وتغييرها، إلّا أنّنا ما زلنا لا نملك رؤية واضحة بشأن المشروع السياسيّ الّذي يعرّف التغيير المنشود وما نسعى لنصل إليه، بل ربّما لا زلنا نفتقر حتّى إلى الحِوار بشأن هذا الموضوع. لذا، نرى من المهمّ أن نطرح بعض الأسئلة لتَكُون فاتحةً لنقاشات مستقبليّة أكاديميّة وسياسيّة فلسطينيّة، وربّما إسرائيليّة كذلك، ولمناقشة أسئلة برأينا دون الإجابة عنها، سيبقى بدونها الخطاب الفلسطينيّ عالقًا وقاصرًا عن تخطّي الاستعمار الاستيطانيّ تصوُّرًا وعملًا.

فعلى سبيل المثال، ما زلنا لا نملك تصوُّرًا مٌبَلْوَرًا حول ماهيّة الجماعة السياسيّة الّتي يجب أن تتحرّر وما يجب أن تتحرّر منه. فهل هي حصرًا الجماعة الفلسطينيّة، أم تتّسع لتشمل الإسرائيليّين؟ ومن الواضح أنّه ليس هنالك إجماع فلسطينيّ بشأن معنى التحرُّر من الكولونياليّة الاستيطانيّة؛ إذ يحصر البعض معنى التحرُّر في إنهاء الاحتلال (وإقامة الدولة الفلسطينيّة على الأراضي المحتلّة عام 1967)، على نحوِ ما تعبّر عنه السلطةُ الفلسطينيّة ونُخَبُها السياسيّة وغالبيّةُ الأحزاب السياسيّة العربيّة الممثَّلة في الكنيست الإسرائيليّ، وعلى رأسها «الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة»، بينما تنادي قوى سياسيّة وفكريّة وأكاديميّة إلى مقاومة الصهيونيّة بمُجْمَلها كمشروع سياسيّ لا يمكن التعايش معه.

ما زلنا لا نملك رؤية واضحة بشأن المشروع السياسيّ الّذي يعرّف التغيير المنشود وما نسعى لنصل إليه، بل ربّما لا زلنا نفتقر حتّى إلى الحِوار بشأن هذا الموضوع...

وهل نملك اجتهادات حول السؤال المتعلّق بالعلاقة المنشودة بين أعضاء الجماعة أو بين المجموعات السياسيّة بداخلها، وحول المبادئ الّتي من المفروض أن تَحْكم هذه العلاقة؟ فهل نسعى إلى دولة مواطنين يقيمون علاقة مباشرة بالدولة دون وساطة، أم هي دولة لمجموعتين قوميّتين تملكان حقوقًا جماعيّة فضلًا عن الحقوق الفرديّة؟ وما معنى الحقوق الجماعيّة وكيف نعرّف المجموعة القوميّة في تلك الحالة؟

هل تساعدنا تجارب الآخرين، أولئك الّذين عاشوا وقاوموا وأنتجوا معرفة حول سياقات استعماريّة استيطانيّة أخرى، في فهم ومقاومة حالة الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين؟ وهل نتّفق أصلًا أنّنا نعيش استعمارًا استيطانيًّا في فلسطين التاريخيّة، سواء أكان تعريفنا مواطنين أَمْ قابعين تحت احتلال؟ ويبقى السؤال المركزيّ: هل نملك تصوُّرًا أو اجتهادات حول معنى التحرُّر من الكولونياليّة الاستيطانيّة، وحول معالم الطريق إلى تحقيق هذا المعنى؟

لقد قدّمت بعض الفصائل الفلسطينيّة في المنفى وفي الأراضي المحتلّة عام 67، وكذلك الأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة داخل أراضي 1948، اجتهادات مختلفة بشأن بعض الأسئلة أعلاه، كما قدّم العديد من المثقّفين والأكاديميّين اجتهادات مختلفة، ولكنّها لم تكن مُبَلْوَرة وما زالت كذلك؛ كان منها -على سبيل المثال- قبل أكثر من عَقْد ونصفٍ التصوّراتُ المستقبليّة، ولا سيّما «وثيقة حيفا» الّتي صاغها مثقّفون وناشطون فلسطينيّون من داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، قدّموا رؤى حول هُويّتهم الجماعيّة وتصوُّرهم للحياة المستقبليّة كفلسطينيّين وكجزء من الأمّة العربيّة، وحول علاقتهم المستقبليّة باليهود في الكيان السياسيّ المنشود. وتناولت بعضُ المقالات الّتي يتضمّنها هذا الكتاب بعضَ الأسئلة المطروحة أعلاه، وإن لم تكن في صُلْب ثيمة المقالات. النصوص المذكورة أعلاه، ومنشورات أكاديميّة وسياسيّة كثيرة مختلفة، إضافة إلى المواضيع الّتي تتناولها المقالات المجموعة في هذا الكتاب، قد تشكّل فاتحة لتطوير النقاش السياسيّ والأكاديميّ بشأن الكيان السياسيّ والاجتماعيّ المنشود.

 


إحالات

[1] Rashid Khalidi. (2020). The hundred years’ war on Palestine: A history of settler colonialism and resistance, 1917-2017, (New York: Metropolitan Books, 2020), Edward Said, Zionism from the standpoint of its victims. Social Text, 1979, 1. Pp. 7-58.

[2] تبنّت «منظّمة التحرير»، لفترة قصيرة فقط، في برنامجها "دولة علمانيّة ديمقراطيّة واحدة" الّذي أطلقته في عام 1968، رؤيةً يعيش بموجبها الفلسطينيّون واليهود على قدم المساواة في دولة واحدة، لكنّها لم تقدّم أيّ تفصيلات بشأن العلاقة أو ترتيبات تقاسُم السلطة بين المجتمعَيْن بحسب هذا التصوُّر: انظر:

Nabil Shaath. The democratic solution to the Palestinian issue. Journal of Palestine Studies, 1977, 6(2),  Pp. 12-18.

[3] للمزيد:

Abu-Lughod, Ibrahim A., & Abu-Laban, Baha. (Eds.). Settler regimes in Africa and the Arab world. (Wilmette: Medina University Press International, 1974), Jamil Hilal. Imperialism and settler-colonialism: Israel and the Arab Palestinian struggle. UTAFITI: Journal of the Arts and Social Sciences, 1976,  1(1).  Pp. 51-70. George Jabbour, Settler colonialism in Southern Africa and the Middle East. (Beirut: Palestine Liberation Organization Research Center, 1970).

[4] Salamanca, Omar Jabary; Qato, Mezna; Rabie, Kareem, & Samour, Samour. Past is present: Settler colonialism in Palestine. Settler Colonial Studies,  2(1), (2012). Pp. 1-8.

[5] للمزيد: نديم روحانا. المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ: نحو استعادة الإطار الكولونياليّ الاستيطانيّ. مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، 2014، العدد 97. ص 18-36، عزمي بشارة. استعمار استيطانيّ أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟! عُمران، العدد 38 (2021) ص 13-43.

[6] Alain Gresh. The PLO: The struggle within: Towards an independent Palestinian state. (London: Zed Books,1998).

[7] يطرح ﭼـابرييل ﭘـيتربيرﭺ أنّ اثنين على الأقلّ من أبرز علماء الاجتماع الإسرائيليّين عملَا ضمن إطار التحليل القائم على الاستعمار الاستيطانيّ، هما: باروخ كيمرلينـﭻ وﭼـيرشون شَفير: انظري/ي:  

Gabriel Piterberg. Israeli sociology’s young Hegelian: Gershon Shafir and the settler colonial framework. Journal for Palestine Studies, 44(3). (2015). Pp. 17-38

[8] في الانتخابات الإسرائيليّة في الـ 17 من أيلول (سبتمبر) عام 2019، حصل «حزب ميرِتْس» (الصهيونيّ اليساريّ) الّذي يتبنّى هذه الآراء على خمسة مقاعد برلمانيّة من أصل 120.

[9] عن غياب الذاكرة بشأن المدن، انظروا: منار حسن. غير مرئيّات: النساء والمدن الفلسطينيّة. (القدس: الكيبوتس الموحّد ومعهد ﭬـان لير، 2018). [بالعبريّة].

 


 

مدى الكرمل

 

 

 

مؤسّسة بحثيّة مستقلّة وغير ربحيّة، تأسّست عام 2000 ومقرّها في مدينة حيفا، الأراضي المحتلّة عام 1948.